تتنوّع ردود الفعل إزاء استشراء الطائفيّة التي نعيش زمنها وممارساتها البشعة في بلدان المنطقة بحسب المقام والمقال، وتتراوح من الإنكار المطلق، إلى نقيضه البائس. ويمعن الأخير، في بعض نسخه، في إسقاط الحاضر (والماضي القريب جداً) على التاريخ لاصطناع وتخيّل وتحديد جذور وأصول لكل ممارسة وفكرة طائفيّة يتم ترويجها الآن، فتصبح محض صدى أوتكراراً لما يُظنّ أنّه كان دائم الحدوث، وللسبب نفسه دائماً. ويختفي الفهم التاريخي وتُخْتزل الحِقَب وتختفي الحدود بينها وبين السياقات المختلفة، وتضمحل كل خصوصيّاتها لترسيخ سرديّة كبرى ثابتة وعابرة للتاريخ. والخلاصة لدى هؤلاء الذين يركنون إليها هي أن العلّة في الجوهر (وما أدرانا ما الجوهر؟) وفي النص (والثاني يقودنا دائماً إلى الأول في هذا المنطق). العلّة في نصوص دين (أو طائفة) الأغلبيّة وفي الثقافة والممارسات التي تم ترسيخها. وهكذا تكون الطائفية ثابتاً لا يتغيّر وطائفيّة الحقبة التي نعيشها امتداداً واستمراراً للطائفية التي كانت. وتكون الطائفة (أو أي جماعة في هذا المنطق) هي الأخرى كتلة ثابتة منغلقة، سواء كانت الغالبة أو المغلوبة. ويكون للضحيّة تاريخ مستمر أيضاً وهويّة ثابتة تعبر الأزمنة وتصمد أمام التغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة العاصفة والهائلة وتظل كما هي. يستخدم هذه السرديّة ويعيد إنتاج نسخ منها ومن منطقها من يقفون على طرفي نقيض إيديولوجيّاً. فالمفارقة الكبرى هي أن الكثيرين ممّن يرومون الوقوف ضد الطائفيّة ومقاومتها يعيدون إنتاج منطقها.
يتعامل الطائفي مع طائفة أخرى بأكملها على أنّها وحدة متكاملة متجانسة مغلقة وكتلة عابرة للتاريخ والأزمان والأطر الاجتماعيّة والاقتصاديّة. إنّها «آخر جمعي» جاهز للشيطنة، بحسب الطلب، وشاشة أو حيّزاً لإسقاط شتى أنواع السلبيات والمخاوف. يجرّد الطائفي الفرد الذي ينتمي إلى الطائفة الأخرى من أبعاده وخصوصيّاته ويمحو فردانيّته وإنسانيّته ويرى إليه على أنّه محض انعكاس للجماعة بأكملها وممثلاً لها في كل قول وفعل.
يستخدم الكثيرون من الذين ينأون، أو يحاولون النأي بأنفسهم، عن الطائفيّة المنطق والبنية نفسيهما، لكنّهم يعكسون المضمون ويستبدلون القيم الإيجابيّة بالسلبيّة. فتصبح طائفة الآخر أو دينه (المسيحيّ هنا كمثال) كتلة خياليّة مثاليّة، كل من ينتمي إليها ملاك مسالم، يحلّق خارج أي سياق أو إطار مادي واقعي، مرآة مصقولة لقيم الدين وممارسات معتنقيه المسالمة. ولا يخلو هذا الخطاب من مازوشية مفرطة فيصبح الدين الآخر، مُخْتَزلاً ومبسّطاً إلى حد التسخيف، استعارة لكل ما هو إيجابي وكل ما يُظنّ، خطأ، أنّه مفقود في دين الأغلبيّة. ولا يخلو خطاب الساعين إلى اللاطائفية من فوقيّة ومركزيّة تتمثل في «الطبطبة» على ظهر الطائفة الأخرى بترديد مقولات مثل إنهم «وطنيّون، أحبّوا البلد»، وكأن الافتراض أنّهم ولدوا يكرهون بلدهم. أو بترديد مقولة «ساهموا في بناء البلاد! «، وكأن الافتراض هو أنّهم خرّبوه أو أنّهم كانوا يجلسون ويتفرّجون على من بناه. فبدلاً من التخوين والشيطنة يتم إصدار شهادات الوطنيّة والمُبالغة في الأنْسنة والأَمْثَلة. التشييئ وإن كان بدرجات هو الثابت، بغض النظر عن النوايا. وغالباً ما تحضر حكايات وصور الأقليّات المطرودة والمهجّرة كاستعارة لماضٍ مؤمْثَل ولـ «زمن الخير»، مناسبة وذريعة للبكاء الجمعي.
* نشر المقال في جريدة السفير